news-details

عن سورياحيث كانت الشعارات أوكسجين النظام، وغازاً ساماً للشعب في هذا الشرق العربي الممتد من الوجع إلى الوجع، لا توجد مادة أكثر وفرة من الشعارات. هي لا تُزرع ولا تُستورد، لا تُنتجها المصانع ولا تُخطها المطابع فحسب، بل تُغرس في العقول، وتُحقن في المدارس، وتُبث في النشرات، وتُقدّم مع الراتب ـ إن وُجد ـ كوجبة إجبارية. أنا – كمواطن عربي وسوري بالأخص – أعترف أنني كنت أحد ضحايا هذا الإدمان الجمعي على الشعارات. كُنا نرددها كما يُردد الطفل الأغاني قبل أن يعرف معناها. نحفظها عن ظهر قلب، بينما كنا نفقد قلوبنا وأعمارنا تحت سلطتها. منذ نعومة أظفارنا ونحن نردد: "قائدنا إلى الأبد"، دون أن نعرف أن الأبد، في قاموس الديكتاتور، يعني حياة كاملة من القهر. "الوحدة، الحرية، الاشتراكية"، ولم نحصل لا على الوحدة، ولا على الحرية، وبالكاد ذقنا اشتراكية الأرصفة والبطالة. كنا نعيش في دولة يحكمها شعار، وتُخنق فيها الحقيقة بكلمة. الطوابير تُسمى "صموداً"، الفقر "كرامة"، الموت المجاني "استشهاداً"، والذل "ممانعة". حتى أصبحت البلاد مسرحاً بلا جمهور، فقط ممثلون فقراء بأدوار مكررة، وديكور من الفولاذ والمخابرات. ولأننا شعبٌ عانى من "فرط استهلاك الشعارات"، أقترح اليوم، وبكامل العبثية التي يفرضها الواقع، إنشاء ما أسمّيه: "الهيئة العامة لمكافحة الشعارات". هيئة لا تتبع لأي جهة حكومية، بل ترفض فكرة الجهة من أساسها! هيئة خيالية لحل مشكلة واقعية. ما هي مهام هذه الهيئة؟ 1 تصفية الإرث الشعاراتي: مراجعة كل لافتة وكتاب مدرسي وجدار مدرسة، ومسح كل عبارة مثل: "الأسد أو نحرق البلد"، "معك للموت"، "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، واستبدالها بعبارات واقعية، مثل: "نريد خبزاً قبل الخطابات"، "الكرامة لا تُورّث"، "الوطن ليس شركة عائلية". 2محاسبة مستخدمي الشعارات المضللة: كل من قال "الاقتصاد بخير" يُلزم بشراء حاجاته من السوق السوداء لمدة أسبوع. كل من صرح أن "الدولار ليس مؤشراً" يُمنع من استخدام الليرة نهائياً ويُعطى قسائم تموينية فقط. 3تأسيس "مستشفى إعادة التأهيل من الإدمان الشعاراتي": يتضمن علاجاً سلوكياً يقوم على مشاهدة نشرات أخبار حرة، وحضور جلسات نقاش حقيقية لا تبدأ بعبارة: "كما وجّه السيد الرئيس". 4تحديد الحد الأقصى لعدد الشعارات في الحياة اليومية: مثلاً، لا يجوز لموظف في دائرة حكومية أن يبدأ حديثه بأكثر من شعارين، وإلا أُحيل إلى "قسم الترجمة الواقعية". 5 حظر "الشعار الصامت": وهو أن تحمل صورة الرئيس على جدار، وتعتقد أنك بذلك وطني. هذا الفعل يُعتبر خمولاً ذهنياً ويُعاقب عليه بنقل الصورة إلى أقرب حمّام عام مع تنظيفه شهرياً. لكن من أين جاءت كل هذه المصائب؟ الشعارات ليست اختراعًا أسديًا خالصًا، بل مرض عربي أصيل. كنا نقرأ في كتب الأدب: "لنا الصدر دون العالمين أو القبرُ"، ونحن بالكاد نحصل على مقعد في باص النقل الداخلي. "إذا بلغ الفطام لنا صبيٌّ وإذا بلغنا سن الرجولة، صرنا نخاف من حاجز طيار أو تقرير كيدي. نعم، كان الشعر العربي – في بعضه – مساهماً في صياغة ثقافة "الصوت العالي"، تلك التي تُقدّم التهديد على التفكير، والنبرة على المعنى، والبطولة على الحسابات. الثورة السورية... لحظة سقوط الشعار هنا تبدأ الجدّية: لقد كانت ثورتنا الكريمة المباركة أول تمرّد شعبي حقيقي على هذه المنظومة الشعاراتية. عندما خرج السوريون في 2011، لم يخرجوا فقط ضد الاستبداد، بل ضد كل ما يمثله من شعارات جوفاء. قالوا لا لـ"سوريا الأسد". قالوا لا لـ"قائدنا للأبد". قالوا: "الشعب يريد إسقاط النظام"، لا ليضعوا شعارًا جديدًا، بل ليُسقطوا آخر شعارات الزيف. نعم، ثورتنا انتصرت لأنها انتصرت على الخوف، وعلى الخرافة، وعلى الكذب. وإن لم يكتمل النصر السياسي بعد، فالنصر المعنوي قد تحقق، حين كسر السوريون الجدار الصلب بين الشعارات والحقيقة. في الختام أنا لا أطالب بإنشاء هيئة حقيقية، فلدينا من الهيئات ما يكفي لجعل أي مواطن يشعر بالذنب لمجرد أنه ما زال على قيد الحياة. لكني أطالب بوعي جديد، بقراءة مختلفة، بعين ناقدة لكل عبارة "مُنَمّقة" تطرق آذاننا. أن نُعلّم أبناءنا أن الشعار لا يُطعم خبزاً، ولا يحمي وطناً، ولا يبني مستقبلاً. وأن الكلمة الحقيقية لا ترتفع بصوتها، بل بصدقها. فلنُعلن جميعًا – ولو داخل أنفسنا – انضمامنا الرمزي إلى "الهيئة العامة لمكافحة الشعارات" ولنبدأ أولى مهامنا: تمزيق ما بقي من اللافتات داخلنا. رئيسر الهيئة مواطن عايف طي*** داني عطايا



التعليقات

اضافة تعليق