داني عطايا منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، دخلت البلاد في مرحلة معقدة من التحولات السياسية والاجتماعية. وعلى الرغم من سقوط نظام حزب البعث في بعض المناطق، إلا أن الانقسامات الفكرية والاجتماعية تعمّقت، ولم يؤدِ التغيير إلى تحقيق الاستقرار أو الوحدة الوطنية. بعد أكثر من ثلاثة عشر عامًا، لم يعد الصراع محصورًا في المواجهة مع النظام السابق فقط، بل تطور إلى صراعات داخلية بين مختلف الأطراف والتوجهات، في ظل تدخلات خارجية تزيد المشهد تعقيدًا. في هذا السياق، يُظهر تحليل المشهد السوري الحالي أن البلاد تمرّ بأزمة متعددة الأبعاد تشمل تفكك النسيج الاجتماعي، وتزايد العنف، وصراع الرؤى الأيديولوجية، وسط غياب رؤية وطنية موحدة، مما يجعل مستقبل سوريا مفتوحًا على احتمالات متعددة. --- أولًا: تفكك النسيج الاجتماعي واستقطاب حاد أحد أبرز تداعيات الثورة السورية هو التفكك العميق في بنية المجتمع. فبعد انهيار النظام القديم في أجزاء واسعة من البلاد، ظهرت قوى متعددة تتنافس على السلطة. هذه الفجوة السياسية ولّدت بيئة استقطاب حاد بين مكونات الشعب السوري، وأدت إلى تفكك الهويات الوطنية الجامعة لصالح الهويات الفرعية الطائفية والعرقية والمناطقية. تشير الباحثة في علم الاجتماع السياسي ثيدا سكوكبول إلى أن الثورات غالبًا ما تؤدي إلى فراغ في السلطة، ما يسمح ببروز قوى متنافسة تؤدي إلى انقسامات اجتماعية عميقة (1). وفي الحالة السورية، لم يتمكن أي طرف من فرض سلطة مركزية شاملة، مما عزز الانقسامات وأضعف جهود إعادة بناء الدولة. أصبح الاستقطاب في سوريا اليوم واقعًا ملموسًا؛ حيث تتنازع القوى الكردية والعربية، والإسلامية والعلمانية، والطوائف المختلفة على النفوذ والسلطة. هذا التمزق يعمّقه تدخل القوى الإقليمية والدولية، مما يحوّل سوريا إلى ساحة صراع بالوكالة تُستخدم فيها الانتماءات الطائفية والعرقية كأدوات لتحقيق أجندات خارجية. --- ثانيًا: العنف والانتقام كوسيلة لتسوية الخلافات مع غياب آليات العدالة الانتقالية الفعالة، أصبح العنف وسيلة رئيسية لحسم الخلافات. يعزز هذا الواقع انهيار الثقة بين المكونات الاجتماعية المختلفة، حيث تحوّل الانتقام إلى أداة للتعبير عن الغضب واستعادة الكرامة. يشرح الباحث في علم الاجتماع جون إلستر أن المجتمعات التي تمرّ بمرحلة انتقالية بدون أنظمة عدالة واضحة، تصبح أكثر عرضة لاستخدام الانتقام كأداة لتسوية النزاعات (2). وفي سوريا، أدّى غياب المحاسبة إلى موجات من العنف الطائفي والعرقي، خصوصًا في المناطق التي شهدت تغييرًا في السيطرة. أحداث الساحل السوري في مارس 2025 هي مثال واضح على هذا النمط، حيث تصاعدت أعمال العنف بشكل مفاجئ نتيجة لانعدام الثقة وتضارب الروايات. وقد أدى تضليل المعلومات عبر وسائل الإعلام المختلفة إلى تعميق الانقسام، مما يجعل الوصول إلى حقيقة الأحداث أمرًا بالغ الصعوبة. --- ثالثًا: صراع التوجهات الأيديولوجية وغياب الرؤية الموحدة تعددت الرؤى والتوجهات الأيديولوجية بين القوى السياسية والمجتمعية بعد الثورة، مما حال دون تحقيق توافق وطني. يعزو عالم السياسة صموئيل هنتنغتون هذه الظاهرة إلى غياب المؤسسات القادرة على إدارة الخلافات، مما يؤدي إلى تصاعد العنف كوسيلة للتعبير عن الصراع (3). وفي سوريا، يتجلى هذا الصراع في الانقسامات داخل كل طيف سياسي أو ديني. فبينما يرى بعض الإسلاميين أن تطبيق الشريعة هو الحل، يطالب العلمانيون بدولة مدنية ديمقراطية. في الوقت نفسه، تعاني التيارات القومية الكردية والعربية من خلافات حول الهوية الوطنية وتقاسم السلطة. الحكومة الحالية في سوريا تمثل محورًا رئيسيًا لهذا الانقسام؛ فهناك من يعتبرها امتدادًا لنظام البعث بصيغة جديدة، بينما يرى آخرون أنها فرصة لبناء دولة مختلفة. هذا الانقسام لا يعكس خلافًا سياسيًا فقط، بل يرتبط أيضًا بمخاوف عميقة حول الهوية والعدالة ومستقبل البلاد. --- رابعًا: الهجرة والقلق من المستقبل وسط هذا المشهد المعقد، تزداد وتيرة الهجرة، خاصة بين أبناء الطائفة العلوية الذين يشعرون بقلق متزايد من مستقبلهم في ظل تصاعد العداء الطائفي. من ناحية أخرى، يواجه المغتربون السوريون صعوبة في العودة بسبب انعدام الأمن والاستقرار. هذه الهجرة الداخلية والخارجية تعكس أزمة ثقة في مستقبل البلاد، حيث يشعر كثيرون بأن الأوضاع لن تتحسن في ظل استمرار الانقسامات الداخلية والتدخلات الخارجية. --- خامسًا: مستقبل سوريا – بين التوحيد والانقسام المستمر مع استمرار الانقسامات الداخلية وتعاظم التدخلات الخارجية، يظل مستقبل سوريا غير واضح. السؤال الرئيسي هو: هل يمكن للقوى السياسية والاجتماعية تجاوز خلافاتها وبناء رؤية وطنية موحدة؟ أم أن البلاد ستبقى عالقة في دائرة الصراعات والانقسامات؟ لتحقيق الاستقرار، يتطلب الأمر: 1. إعادة بناء الثقة بين المكونات الاجتماعية. 2. تفعيل آليات العدالة الانتقالية لضمان المساءلة والمصالحة. 3. وضع رؤية وطنية جامعة تتجاوز الهويات الفرعية. 4. تقليل التدخلات الخارجية وتعزيز السيادة الوطنية. بدون تحقيق هذه العناصر، من المرجح أن تستمر سوريا كمساحة مفتوحة لصراعات لا تنتهي، ما يعمّق معاناة شعبها ويهدد مستقبل أجيالها القادمة. --- المصادر والمراجع 1. ثيدا سكوكبول – "States and Social Revolutions: A Comparative Analysis of France, Russia, and China" (1979). تحليل تأثير الفراغ السلطوي بعد الثورات ودوره في تفكك النسيج الاجتماعي. 2. جون إلستر – "Closing the Books: Transitional Justice in Historical Perspective" (2004). يناقش دور العدالة الانتقالية في إدارة العنف والانتقام في المجتمعات المتحولة. 3. صموئيل هنتنغتون – "Political Order in Changing Societies" (1968). يحلل كيف يؤدي غياب الرؤية الموحدة بعد التحولات السياسية إلى تصاعد العنف.
التعليقات