داني عطايا على مدى نصف قرن، ظلت إسرائيل في الوعي السوري تمثل العدو المركزي الذي يُجمّع الشعب حوله ويُعيد تشكيل الولاء الوطني والهوية، في ظل نظام الأسد الذي اعتمد سياسة استثمار العداء لإسرائيل كوسيلة لترسيخ الشرعية السياسية، وضبط المجال العام، وتحويل الانتباه عن الانقسامات الداخلية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية. تؤكد الدراسات النفسية والاجتماعية والسياسية، ومنها دراسات Greenberg, Solomon & Pyszczynski (1997) حول نظرية إدارة الرعب، ودراسات Mueller (1970) وHetherington & Nelson (2003) حول Rally-round-the-flag، أن التهديد الخارجي يعزز الانتماء الوطني والتماسك الاجتماعي، ويرفع مستوى الثقة بالقيادة، فيما تؤكد دراسات Tajfel & Turner (1979) أن بناء الهوية على أساس وجود عدو مشترك أكثر فاعلية من بناء الهوية على قيم إيجابية مجردة. لقد استثمر النظام السوري هذه الديناميكيات لعقود طويلة، إذ ارتبطت سردية “المقاومة” تجاه إسرائيل بخطاب الهوية الوطنية السورية، مع استخدام هذه السردية مبررًا للقبضة الأمنية تحت ذريعة حماية الجبهة الداخلية، وهو ما أشار إليه تقرير مركز عمران للدراسات الاستراتيجية (2020) الذي أوضح أن الصراع مع إسرائيل استُخدم كورقة تعبئة داخلية مستمرة مع الحفاظ على مستوى توتر منخفض لا يصل إلى مواجهة شاملة. اليوم، ومع بروز مؤشرات متنامية لاحتمالات تحوّل إسرائيل إلى شريك إقليمي لدى بعض الأطراف العربية، واحتمال انخراط سوريا بشكل مباشر أو غير مباشر في هذا المسار ضمن صفقات إقليمية أوسع، يواجه المجتمع السوري احتمال تحوّل إسرائيل من عدو إلى صديق، وهو ما سيترك فراغًا نفسيًا واجتماعيًا في الوعي السوري. فمن المتوقع أن يؤدي زوال هذه السردية إلى حدوث فراغ نفسي جماعي، إذ يشعر الأفراد بفقدان الإطار الجمعي الذي منحهم هوية “المقاومة”، مع تراجع الخطاب الذي ظل لفترة طويلة يبرر الوحدة الوطنية ويقمع الخلافات. تشير التجارب الدولية إلى هذه الظاهرة بوضوح، ففي حالة يوغسلافيا بعد انهيار السردية الوطنية الموحدة بغياب العدو الخارجي، تصاعدت النزاعات الداخلية والانقسامات الإثنية كما أشار Gagnon (1994)، وفي حالات مصر والأردن بعد السلام مع إسرائيل، تراجع الخطاب العدائي مع ظهور تحديات داخلية جديدة تتعلق بالاقتصاد والحوكمة، وهو ما وثقته دراسات مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. في حال تحول إسرائيل من عدو إلى صديق فعليًا، فإن النظام في سوريا أمام ثلاث مسارات محتملة: إعادة إنتاج العداء عبر بدائل داخلية أو خارجية لضمان استمرار الالتفاف حول السلطة، أو الانزلاق نحو صراعات داخلية بسبب غياب السردية الموحدة، أو تبني بناء وطنية مدنية جديدة قائمة على الحقوق والمصالح بعيدًا عن العداء، مع تعزيز قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية، وهذا الخيار الأخير يتطلب عملية مصالحة وطنية شاملة وإصلاحات سياسية واجتماعية جذرية، بما يتوافق مع نموذج “الهوية الجامعة” كما أوضح Gaertner & Dovidio (2000). في السياق السوري، تبقى هذه اللحظة فرصة تاريخية لإعادة بناء الهوية الوطنية بعيدًا عن خطاب الكراهية والخوف، وتحويل سردية العداء إلى سردية المصالح المشتركة والسلام والتنمية، لتأسيس دولة مدنية قائمة على سيادة القانون والمشاركة، وتحرير المواطن من الخوف الذي ساد طويلاً تحت شعار مواجهة العدو. وبهذا الانتقال، يمكن للسوريين تجاوز حالة التجميد التاريخي، والبدء بمواجهة التحديات الداخلية الحقيقية لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وعدلاً. --- المصادر المستخدمة: Greenberg, J., Solomon, S., & Pyszczynski, T. (1997). Terror Management Theory. Mueller, J. (1970). Presidential Popularity from Truman to Johnson. Hetherington, M. & Nelson, M. (2003). Anatomy of a Rally Effect. Tajfel, H. & Turner, J. (1979). An Integrative Theory of Intergroup Conflict. Gagnon, V. (1994). Ethnic Nationalism and International Conflict: The Case of Serbia. Gaertner, S. & Dovidio, J. (2000). Reducing Intergroup Bias: The Common Ingroup Identity Model. مركز عمران للدراسات الاستراتيجية (2020). "سوريا والصراع العربي الإسرائيلي". مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية (2019). "تحولات العلاقة العربية الإسرائيلية في ضوء المتغيرات الإقليمية". مركز الدراسات والبحوث في جامعة دمشق، دراسات متفرقة عن الهوية الوطنية السورية وسرديات المقاومة (2017-2022).
التعليقات