news-details

مروان قبلان تفاخر الديمقراطيات، الولايات المتحدة خاصة، بالقول "إن كل السياسة عندها محلية" (All politics is local)، بمعنى أن غاية السياسة، كل السياسة، بما فيها الخارجية، هي خدمة مصالح الناس، والعودة عليهم بنفع مباشر من نوع ما، مثل تأمين فرص عمل، أو رفع مستوى المعيشة، أو زيادة الإنتاج والتصدير.. إلخ. المكافأة التي تتلقاها الحكومة عادة، إذا أحسنت الأداء، تكون بإعادة انتخابها، أي التمديد لها في السلطة. بهذا المعنى، يدرك السياسيون، ويتصرفون، على أساس أن قضايا الناس الكبرى هي قضاياهم الحياتية اليومية المتصلة بتأمين قوتهم، وتوفير الخدمات الأساسية لهم من ماء وكهرباء ومواصلات، وصحة وتعليم وغيرها، وأن المرء يقيس نجاحه بما يضعه، في نهاية يومه، على المائدة من طعام. قد يجول عامة الناس مساء، من خلال شاشات التلفزيون، على كل صراعات العالم ومآسيه الكبرى، يتعاطفون هنا، ويغضبون هناك، يتأثرون هنا، ويستاؤون هناك، لكنهم، ما أن يغلقوا جهاز التلفاز، أو يتوقفوا عن تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، حتى يعودوا إلى العيش في عالمهم الحقيقي، وفيه همومهم الحياتية، التي وحدها ما يحدّد سلوكهم ويشغل تفكيرهم. واقع الحال، أن هذا الكلام ينطبق على كل بلد في العالم، ديمقراطياً كان أو غير ذلك، فاحتياجات الناس الحياتية لا تختلف باختلاف الثقافات، والمجتمعات، ونظمها السياسية، الاختلاف الفعلي يكمن في سياسات الحكومة التي تؤثر إيجاباً أو سلباً في قدرة كل مجتمع على تأمين تلك الاحتياجات، وكذلك في وسائل محاسبتها (عبر صناديق الاقتراع، في الشارع، أو بوسائل أخرى). لا تغيب فكرة بهذا الوضوح والبساطة عن بال الإدارة السورية الجديدة التي تبذل، منذ وصولها إلى الحكم، جهدها لجعل الناس يتلمّسون الفارق بين أوضاعهم اليوم وأوضاعهم في ظل النظام البائد. هذا الفارق لا تخطئه العين في مجال الحريات العامة، حيث يتنسم الناس عبق الحرية بعدما زال الطغيان الذي جثم طويلًا على صدورهم. لكن الناس لا يعيشون بالحرية فقط، وقد كانوا قايضوها أيام النظام البائد بالخبز، إلى أن أخذ منهم الاثنين معا (الخبز والحرية) فثاروا عليه. تدل تجارب الانتقال في بلدان كثيرة حول العالم أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لا تصبح أحسن في المراحل الأولى، بل قد تسوء، لأن الفترة بين انهيار القديم واستقرار الجديد تتسم عادة بالارتباك والفوضى، وإحساس بالغربة (التوتر أحياناً) بين النخب الجديدة والمؤسّسات القائمة. هذا يحصل في الأحوال العادية فما بالك ببلد خرج توا من أتون صراع طويل مدمّر أتى على البشر والحجر. تواجه الإدارة السورية الجديدة تحدّيات جمة، لا شك في ذلك، أمنية، واقتصادية، ومؤسسية، لكنها تصعب الأمور على نفسها وعلى السوريين بعجزها حتى الآن عن وضع استراتيجية اتصال فعالة لنقل ما تريده إلى المجتمع، بما في ذلك خططها وسياساتها ومشروعاتها، حتى لو لم يكن لديها أي من ذلك، حاليا، وتمنع في الوقت ذاته الارتجال والتسرع (قصة زيادة الرواتب، مثلًا). السوريون الذين ضحوا وصبروا لسنوات مستعدون أن يصبروا أكثر ويتعاونوا في تجاوز المرحلة الانتقالية بغرض إنقاذ البلد ومنع الفوضى، بدليل سلوكهم المتعاون في ضبط الأمن في ظل ضعف موارد الحكومة الجديدة. هم يتفهمون أيضا حجم التعقيدات المرتبطة برفع العقوبات الدولية، توحيد البلد، استعادة السيطرة على موارده الطبيعية، ومشاكل السيولة النقدية، وغيرها، لكن فقط إذا تمت مخاطبتهم مباشرة، وباحترام وشفافية، وعبر وسائل إعلامهم الرسمية. من غير المفهوم، مثلًا، لماذا لا يقلع التلفزيون الرسمي حتى الآن، ولماذا لا يتم تعيين ناطق باسم الحكومة (وزير الإعلام مثلًا) يقوم بعقد مؤتمر صحافي يومي يقدم فيه موجزا عن عمل الحكومة، ويجيب عن مشاغل الناس. لماذا يترك البلد نهبًا للشائعات والأخبار غير المؤكدة في وسائل التواصل الاجتماعي. استمرار الشعور بوجود فوضى، تخبط وارتباك يفقد الناس الثقة بالحكومة، كما يدفعهم غياب الشفافية بعيدًا عنها. لا شك أن الجميع يتلمّسون وجود نيات حسنة ورغبة لدى الإدارة الجديدة للنهوض بالبلد، لكن هذا لا يكفي. لكسب تعاون الناس، أو أقله تخفيف تبرمهم من الوضع العام، يجب إما أن يشعروا بتحسن أوضاعهم فعلًا، وهذا متعذّر حالياً، أو مشاركتهم الخطط التي تكفل ذلك، ومصارحتهم بالتحدّيات. هكذا فقط يتم قطع الطريق على المتربصين، فكل السياسة، يجب أن لا ننسى، تبقى في النهاية محلية.



التعليقات

اضافة تعليق